الأصل الأسطورى لطقسة الخِتان .
من هو أول من اختتن ؟
فى العالم القديم كانت الأسطورة هى محور حياة البشر .
كل ممارسات البشر و عاداتهم و تقاليدهم كانت عبارة عن صور مُكررة من أحداث وقعت فى سياق أساطير
الخلق . بعض التقاليد و الممارسات العتيقة نجحت فى الهروب من تأثير الزمن و استطاعت البقاء حيّة فى
وجدان الشعوب اللى مارستها لآلاف السنين .
من أشهر التقاليد اللى قاومت طوفان النسيان عادة خِتان الذكور , اللى كانت معروفة للمصريين القدماء من
فجر التاريخ . الجدير بالملاحظة هنا هو قوة التقاليد و قدرتها على تحدى الزمن , حتى بعد ما الناس نسيت
معناها الأصلى .
الشعب المصرى استمر فى ممارسة خِتان الذكور رغم نسيانه الأصل الأسطورى للطقسة و فقدانه القُدرة
على تذكر أول من قام بعملية الخِتان و المغزى الصوفى لإعادة تكرار العملية مع كل طفل ذكريوصل لسن
البلوغ .
تفاصيل أسطورة الخِتان مذكورة فى الفصل رقم 17 من كتاب الخروج للنهار , و ده من أهم فصول الكتاب
لأنه بيحتوى على التفسير الأسطورى لحاجات كتيرة منها ظواهر طبيعية و ممارسات شعبية .
من قراءة نصوص الفصل ده بنعرف إن "رع" هو أول من قام بعملية الخِتان و إنه أجرى العملية لنفسه ,
و إن قطرات الدماء اللى سالت من عضوه الذكرى اتحولت لقُدرات و صفات استثنائية بتلازمُه دايماً فى
طوافه الكونى و ارتحاله ما بين السماء (عالم الأحياء) و الـ "دوات" (العالم السفلى/عالم الموتى) , و هى
اللى بترشده و تحميه من الأخطار اللى ممكن يصادفها فى ظُلمات العالم السفلى .
القُدرات الإستثنائية لـ "رع" , و اللى انبثقت من جراحُه و ظهرت للوجود من رحِم الألم , بيُطلَق عليها فى
اللغة المصرية القديمة "حو" و "سِيا" .
"حو" هو القُدرة على الخلق بقوة الكلمة .
و "سِيا" هو المعرفة الكلية / كمال العلم / الذكاء الكونى .
يرتحل "رع" دوماً برفقة صفاته التى ترشده و تحميه و لا تنفصل عنه أبداً . و هى صفات أصيلة ؛ كانت
موجودة منذ الأزل , لكنها فى حالة خمول (غير مُفعَلَة) , ثم تجسدت من رحم الألم المصاحب لعملية
جراحية و من قطرات الدماء التى سالت من جسده .
الفن المصرى صوّر لنا "حو" و "سِيا" و هم بيرتحلوا مع رع فى قاربه السماوى (قارب الليل) , و مكانهم
فى القارب دايماً هو أقرب الأماكن لـ "رع" (على يمينه أو يساره) .
لما نتأمل معنى أسطورة الخِتان اللى وردت فى كتاب الخروج للنهار بنلاحظ إن العملية الجراحية اللى
أجراها رع لنفسه كانت فى العضو الذكرى تحديداً , مش فى أى عضو تانى .
من بين كل أعضاء الجسد تم اختيار العضو ده , لأنه عضو الخلق , زى ما قالت متون الأهرام لما وصفت
آتوم رع و هو بيخلق أول زوج من الـ "نِتِرو" (قُوَى الخلق) و هم "شو" و "تِفنوت" , من عضوه الذكرى .
من رحم الألم المُصاحب لعملية الختان خرجت للوجود قُدرات استثنائية كانت موجودة , لكنها كانت مُحتجبة
(لم يتم تفعيلها) .
العقل المصرى كان بيشوف فى كل طفل بيتولد صورة مكررة من "آتوم رع" (أو حورس) و بيتعامل مع
ميلاد كل طفل و كأنه صورة مُكررة (و مُصغَرَة) من خلق الكون .
الطفل لا يبقى طفلاً للأبد . فى مرحلة معينة من حياة الطفل فيه تغير هائل بيحصل له , و فجأة بتظهر عليه
أعراض و بتتجسد فيه صفات لم تكن ظاهرة للأعين , و هى صفات الرجولة .
هذه الصفات لم تأتِ من عدم . كل طفل ذكر بيتولد فى عالمنا بييجى و معاه صفات الرجولة , لكنها
تبقى مُحتجبة و لا يتم تفعيلها إلا فى سِن مُعين هو سِن البلوغ , و تحديداً 12 سنة (و هو عدد شمسى
بامتياز) , تمام زى رع ما كان عنده صفات كامنة , لم تتجسد إلا فى مرحلة لاحقة من قصة الخلق و تم
تفعيلها من خلال الألم .
عشان كده المصريين القدماء اختاروا السِن ده لإجراء عملية الختان للذكور و سجّلوا العمليات دى فى
مناظر على جدران المقابر و منها مقبرة "عَنخ ماحور" فى سقارة من عصر الأسرة السادسة (حوالى
2400 سنة قبل الميلاد) . و ده برضو متوسط سن الأطفال اللى كان بيتم إجراء الخِتان ليهم فى الموالد ,
و هى عادة استمرت لآلاف السنين . و لحد منتصف القرن العشرين الناس كانت متعودة تجمع الأطفال
الذكور اللى سنّهم قريب من سن البلوغ و تعمل لهم عملية الخِتان فى الموالد . فى الموروث الشعبى
المصرى العملية دى بيتقال عليها "الطهارة" , و المتطاهِر بيتعامل فيها معاملة المولولد ؛ بيرشوا له الملح
سَبَع مرات و يولّعوا له سَبَع شمعات , زى ما بتقول أغنية الليلة الكبيرة (يا أم المتطاهِر رُشِى
الملح سَبَع مرات . فى مقامه الطاهر خُشِى و إيدِى سَبَع شمعات) .
فى بحثنا عن مغزى الخِتان فى موروثنا الشعبى بيلفت انتباهنا كمان حاجة تانية فى غاية الأهمية , و هى
اختلاف اللسان المصرى عن اللسان العربى فى وصف العملية دى .
اللسان العربى بيسميها خِتان , أما اللسان المصرى فبيستخدم كلمة مختلفة تماماً , و هى الطهارة (الفعل
يطاهِر و الموصوف المِتطاهِر) .
يا ترى إيه دلالة الطهارة فى السياق ده و هل ممكن تساعدنا فى فهم معانى غامضة فى متون الأهرام ؟
ده اللى هنعرفه فى منشورات قادمة .